Saturday, April 5, 2014

أسس النظام المعرفي

أسس النظام المعرفي

إعداد د/ خالد حافظ


النظام المعرفي الإسلامي

    النظام المعرفي يشبه تماما فكرة الهندسة , فمن دون رؤية هندسية لا يمكن إنشاء أي بناء صغر أم كبر , سواء أدرك الباني مفاهيم الهندسة أو عرفها بوصفها علما أم لم يعرفها , لذلك قد يكون من شدة عمق النظام المعرفي وتغلغله في الفكر الإنساني أنه لم يعرف , ولم تنفق جهود في تحديده , لأن البديهي لا يحتاج إلى تعريف ؛ فالناظر في حقيقة النظام المعرفي بعيدا عن المصطلح الذي يطلق عليه , يجد أن النظام المعرفي الإسلامي , سواء اعتبر لأسلمة المعرفة أو هو ذاته مرادفا لها . ظاهرة تاريخية ممتدة صاحبت العقل المسلم منذ أن أوحى إليه أن يقرأ باسم الله في كتابه الموحى , أو أن يقرأ مع الله في كتابه الكوني المكتوب بيد قدرته .



(1) التوحيد :
          هو وحدة الحقيقة ويحتوي على قواعد ثلاثة :
   أ – رفض كل ما لايتطابق مع الحقيقة (رفض التزيف والشك في الإسلام)
   ب – إنكار المتناقضات اللامتناهية (عدم تعارض العقل والنقل) 
   ج – الانفتاح على البيانات الجديدة والمضادة وكليهما معا , بمعنى الاجتهاد الدائم (يصون المسلم من الجمود والتقليد)
·       أبعاد أو مبادئ " لا إله إلا الله " :
-      تفسير كنه الخليقة (الخالق والمخلوق منفصلان) .
-      الصلة الوحيدة بين عالم الخالق وعالم المخلوق هي الصلة العقلية , التي تؤهل المخلوق لإدراك إرادة الخالق .
-      غاية الخلق تحقيق إرادة الخالق .
-      تكليف الإنسان بتحقيق إرادة الله .
-      الوسع مبدأ معرفي ميتافيزيقي . فقد وضع الله في فطرة البشر القدرة على التعرف وإدراك أوامره وطاعته .
(2) عالم الغيب :
           الإيمان بالغيب من مقتضيات التعاليم الإسلامية , وينقسم إلى قسمين :
-      العقيدة : وتشمل الإليهيات , والنبوات , والغيبيات .
-      التوحيد : ويشمل الشريعة والذي يظهر من خلال التطبيق السلوكي .
         ومن أهم مظاهر تأثير الإيمان بالله :
أ – سعة النظر :
علاقة اضطرادية مع المعلومات والحقائق . فالمسلم يتسع نظره عن الكافر لأنه ينظر إلى الحقائق من خلال عالمين عالم غيبي وعالم الشهادة , بخلاف الكافر ينظر من خلال عالم مادي فقط .
ب – تحرر الفكر :
الإيمان بالله وعالم الغيب (ما وراء المادة) يحرر الفكر الإنساني من القيد الذي يكبله عن إدراك الحقيقة . (المسيحية وخطيئة الإنسان , وتجسيد المسيح) , وكذلك  التوحيد يحرر الفكر من الرؤية التشاؤمية .


ج – وحدة المعرفة :
من مقتضيات الإيمان أن يرى الكون وما يجري فيه من أحداث من تدبير الله . فهو وحده المسَبَب المطلق المفرد لكل ما يجري من أحداث , السبب لكل ما هو كائن . فوحدة المعرفة تعطي رؤية كلية , وتبتعد عن الرؤية التجزيئية .
-      الإيمان بوحدة المعرفة كفيل بتجاوز حالة الفوضى الفكرية السائدة في الفكر الفلسفي والعلمي وحتى الديني .
-      وحدة المعرفة تجعل حركة الإنسان منسجمة متوافقة متواصلة مع عالم الغيب .
(3) عالم الشهادة :  
            ينطلق هذا المحور من عدة أبعاد :
-      أن الله مدبر الكون بما فيه " يدبر الأمر من السماء إلى الأرض " , ويحيط علما بخفاياه وأسراره .
-      الإنسان يستطيع إدراك السنن والقوانين التي تحرك هذا العالم .
-      العالم شبكة من العلاقات السببية المترابطة المعتمدة على بعضها , والتي تكرر نفسها ويمكن اكتشافها وهو ما يسمى بالعلم .
-      إن العلوم لا تحتاج فصل الله عن الطبيعة .
-      المعرفة شرط الخلافة , والعلاقة طردية .
-      وضع العقل الإسلامي وإمكاناته المادية والمعنوية تختلف عن العقل اليوناني .
 


      يطلق المعرفي أحيانا على الإبستمولوجي (Epistmologique) , إذ تطلق هذه الكلمة في النسق الغربي على " دراسة مناهج المعرفة التي تطبق في العلوم " كما تطلق على نظرية العلوم.  وتتعلق كذلك بمشكلات المعرفة في الفلسفة وفي العلم , وعلى أشكال التفكير الرياضي , غير أن مفهومها تحدد أكثر غاستون باشلار (1884/1962) , عندما أشار إلى أسس الفكر العقلاني للقيزياء المعاصرة في علاقته بالتجربة .
 فالإبستمولوجيا , إذا تميز بين شكلين للمعرفة :
الأول : هو المعرفة الحسية , وتقوم على المنهج الواقعي (Realiste)  .
الثاني : هو المعارف العقلية (Rationalistes) والمثالية (Idealistes) .
ومن ثم , فهي دراسة نقدية لمبادئ العلوم المختلفة , فروضها , ونتائجها , وتحديد أصلها المنطقي , وقيمتها الموضوعية .
      ومن جملة القضايا التي تثيرها الإبستمولوجيا قضية الجوهر وفكرة الكل , فالجوهر هو الدعامة الأساسية والثابتة لكل الظواهر , وهو الناحية الأولية والكلية في الشيء , وتعتمد الظواهر على على الجوهر لوجودها , ولا يعتمد هو على أي شيء لوجوده . ومن ثم فإن الجوهر هو الحقيقي وما عداه فهو وهم . فهل كان من الضروري البحث عن فكرة الجوهر هذه المختفية خلف الظواهر ؟ أما كانت الأشياء – كما تبدو لنا – كافية في فهم حقيقة الوجود حتى نبحث عن شيء هو الجوهر .  
        وفي ضوء ما سبق يتضح ما يلي :
- فجوهر حضارة المسلمين هو التوحيد , فهو المرشد والموجه والناظم والضابط لكل حركات الفعل الإنساني . فلا يمكننا فهم الأشياء والأفكار من دون الرجوع للجوهر .
- فالإيمان بفكرة الجوهر يعني الإيمان بأن ثمة ثباتا في الواقع , وأن هناك كليات ثابتة وراء الجزئيات المتغيرة . ويختلف هذا التصور عن تصور العدميين والسفسطائيين ودعاة ما بعد الحداثة الذين لا يؤمنون بوجود جوهر , لأن كل شيء عندهم متغير وعرض .
- فالنموذج المعرفي التوحيدي يقوم على الإيمان بفكرة اليقين الموحى به من الله , في مقابل الشكية التي يتسم بها النموذج المعرفي الغربي .
- التصور الغربي قائم على مبدأ النفعية كأساس أو معيار للحقيقة , ويفتقر في حقيقته إلى الإجابة عن الأسئلة الكلية والنهائية .
      ومن ثم , فالنموذج المعرفي الغربي قسم المعرفة كما يلي :
أ – المعرفة الطبيعية . (Natural Sciences)
ب – المعرفة الإنسانية . (Humanities)
ج – المعرفة الطبيعية .  (Social Studies)
     هذا التقسيم بدوره ينافي حقيقة التصور الإسلامي الذي يضع أعلى مراتب المعرفة الإيمان بالله ووحدانيته , ثم معرفة بأحكام شريعته ومضمون عقيدته , وبعدها معرفة الإنسان للكون الذي يعيش فيه وإضافة إلى معرفته بنفسه وبالحياة , بحيث تتكون بنية النظام المعرفي من الوحي والكون الذي يشمل الطبيعة والإنسان , ومجالاته هي عالم الغيب وعالم الشهادة . ليجمع في الأخير جدلية الغيب وجدلية الإنسان وجدلية الطبيعة , أما النظام المعرفي الغربي فيشمل جدلية الإنسان وجدلية الطبيعة فحسب , في محاولته الإجابة على الأسئلة الكبرى والنهائية الآتية :
ما علاقة الإنسان بالطبيعة (المادة) وأيهما يسبق الآخر ؟
ما الهدف من الوجود ؟
    المشكلة المعيارية من أين يستمد الإنسان معايره ؟ من عقله المادي , أم من اسلافه , ام من جسده , أم من الطبيعة (المادة), أم من قوى أخرى متجاوزة المادة ؟  
ومن ثم فالمعرفة في النموذج الإسلامي مشروع مفتوح , وجهد متواصل , وسعي مستمر من أجل الكشف عن الحقيقة المصفاة من الدجل والتدليس والتلبيس .
   ويمكن تلخيص هذه الإبستمولوجيا البديلة المقترحة في المحاور التالية :
أ – التوحيد بوصفه نظرة تفسر العالم : فهو نظرة للواقع والحقيقة والعالم والزمان والمكان والتاريخ البشري , وهو بذلك يشمل المبادئ الآتية :


ب – التوحيد بوصفه جوهر الحضارة :
فهو بذلك له بعدان المنهج والمحتوى , يشكل البعد الأول تطبيق وتوظيف المبادئ الأولى في الحضارة , كما يحدد الجانب الثاني المبادئ الأولى نفسها .

(2) المحتوى :
     التوحيد بوصفه مبدأ في الفلسفة الماوراء طبيعية . يعني أن التوحيد ضرورة , لإلغاء أية  قوة فاعلة في الطبيعة إلى جانب قدرة الله , الذي تكون مبادرته الأزلية هي القوانين الثابتة في الطبيعة , الله هو السبب الأول للموجودات .  وهو ما وصل له العلماء الغربيين أخيرا , بعد أن نبذوا الميتافيزيقا لفترة طويلة . فقد نبذ الغرب فكرة الله من الكون , ومن العلم أيضا , عادوا من جديد إلى القول إن نظام الكون وتناسق عناصره ودقة إحداث ظواهره , لايمكن أن تصدر إلا عن إله مطلق .  فالحقيقة في التصور الإسلامي لاتفصل الطبيعي عما وراء الطبيعة , ولا تفصل النظرية عن التطبيق , والنظر عن العمل والعقل عن السلوك , والدين عن الدنيا , والدنيا عن الآخرة , والإنسان عن الله وعن الكون , والمجرد عن المشخص والنسبي عن المطلق ِ, والكل عن الجزء , والعام عن الخاص , والمركز عم الأطراف والبؤرة عن الهامش , فهذه كلها سمات للحقيقة وفق الإبستمولوجيا البديلة التي يطرحها الفاروقي .  
ثالثا : الأساس القيمي :
        لما انطلقت النظرية المعرفية الغربية من جدلية الإنسان الطبيعة دون الوحي , اتخذ العلم بفعل منهجه ومفاهيمه وسيلة لتعزيز عالم ظلت فيه السيطرة على الطبيعة مرتبطة بالسيطرة على الإنسان , فالطبيعة الخاضعة للعقلانية العلمية , تبدو متمثلة في جهاز الإنتاج والتدمير التقني , الذي يضمن للافراد حياتهم ويسهلها , والذي يخضعهم في الوقت نفسه لأصحاب الجهاز . ومن خلال هذا المنظور افتقر العلم إلى جملة من القيم والضوابط , مما تسبب في اغتراب الإنسان في النهاية (هربرت ماركيوز 1889/1979) , فأصبح العلم مرجعية ذاته .
فالنظرية المعرفية تتكون من شقين :
الأول : يتعلق بإنتاج العلم .
الثاني : يتعلق بتوظيف العلم المنتج لتسيير حياتنا العملية , وما يترتب على ذلك من تفاعل بين الوحي والواقع الاجتماعي , ما يؤدي إلى نمو العلم الإسلامي التجريبي في المجالين الطبيعي والاجتماعي .ةولكن عملية التوظيف تقتضي وجود المقاصد الحياتية , والمقاصد تقتضي وجود الدوافع النفسية الحافزة للعلم , والمقاصد والدوافع تقتضي وجود مرجعية قيمية وأخلاقية حاكمة .
 

فالعلم الأخلاقي من خلال النظام المعرفي الإسلامي يخلق الإنسان الذي يحقق إرادة الله يقتضي وجود الامة , بمعني أنه يستحيل وجود الأمة الإسلامية دون وجود البشرية والحياة , فلأجلها أنزل , فاستمرارها رهن قيمها وأخلاقها . 
علم الجمال : وصف القرآن الله بصفات الجمال والجلال والكمال " ولله الأسماء الحسنى "
" وليس كمثله شيء ".
فالفن في النسق الإسلامي يرتبط باللامتناهي , حيث يتوجه ذهن المتلقي نحو الله , ويغدو الفن دعما للعقيدة الدينية وتذكيرا بها . بينما الفن في النسق الغربي تجسيد للطبيعة وتقديس لها , وتطور الامر ليتخذ الفن شكل محاكاة الإله , فهو يصنع الألهة على شكل البشر ويضفي عليهم صفات بشرية .
الفرق بين مصطلحي (Aesthetic/Beauty) , الأول الجمال المادي , والثاني الجمال .
فالجمال والفن باعتبارهما قيمتين ينضويان تحت منظومة القيم الإسلامية التي لا تخصان مجالا معينا , بل هي جزء لا يتجزأ من نسق كامل , هو النسق المعرفي الإسلامي . بمعنى أن الجمال ليس غاية لذاتها وإنما هو أحد الأهداف التي ترد للغاية الكبرى من الخلق والمتمثلة في ربط الخلق بالخالق , برابطة التوحيد , وما يقتضيه من تذكير بنعم الله على خلقه ظاهرة وباطنة .