أسس النظام المعرفي
إعداد د/ خالد حافظ
النظام
المعرفي الإسلامي
النظام المعرفي يشبه تماما فكرة الهندسة ,
فمن دون رؤية هندسية لا يمكن إنشاء أي بناء صغر أم كبر , سواء أدرك الباني مفاهيم
الهندسة أو عرفها بوصفها علما أم لم يعرفها , لذلك قد يكون من شدة عمق النظام
المعرفي وتغلغله في الفكر الإنساني أنه لم يعرف , ولم تنفق جهود في تحديده , لأن
البديهي لا يحتاج إلى تعريف ؛ فالناظر في حقيقة النظام المعرفي بعيدا عن المصطلح
الذي يطلق عليه , يجد أن النظام المعرفي الإسلامي , سواء اعتبر لأسلمة المعرفة أو
هو ذاته مرادفا لها . ظاهرة تاريخية ممتدة صاحبت العقل المسلم منذ أن أوحى إليه أن
يقرأ باسم الله في كتابه الموحى , أو أن يقرأ مع الله في كتابه الكوني المكتوب بيد
قدرته .
(1) التوحيد :
هو وحدة الحقيقة ويحتوي على قواعد
ثلاثة :
أ – رفض كل ما لايتطابق مع الحقيقة (رفض التزيف
والشك في الإسلام)
ب – إنكار المتناقضات اللامتناهية (عدم تعارض
العقل والنقل)
ج – الانفتاح على البيانات الجديدة والمضادة
وكليهما معا , بمعنى الاجتهاد الدائم (يصون المسلم من الجمود والتقليد)
·
أبعاد أو مبادئ
" لا إله إلا الله " :
-
تفسير كنه
الخليقة (الخالق والمخلوق منفصلان) .
-
الصلة الوحيدة
بين عالم الخالق وعالم المخلوق هي الصلة العقلية , التي تؤهل المخلوق لإدراك إرادة
الخالق .
-
غاية الخلق
تحقيق إرادة الخالق .
-
تكليف الإنسان
بتحقيق إرادة الله .
-
الوسع مبدأ
معرفي ميتافيزيقي . فقد وضع الله في فطرة البشر القدرة على التعرف وإدراك أوامره
وطاعته .
(2) عالم الغيب :
الإيمان
بالغيب من مقتضيات التعاليم الإسلامية , وينقسم إلى قسمين :
-
العقيدة :
وتشمل الإليهيات , والنبوات , والغيبيات .
-
التوحيد :
ويشمل الشريعة والذي يظهر من خلال التطبيق السلوكي .
ومن أهم مظاهر تأثير الإيمان بالله :
أ – سعة النظر :
علاقة اضطرادية مع المعلومات والحقائق . فالمسلم
يتسع نظره عن الكافر لأنه ينظر إلى الحقائق من خلال عالمين عالم غيبي وعالم
الشهادة , بخلاف الكافر ينظر من خلال عالم مادي فقط .
ب – تحرر الفكر :
الإيمان بالله وعالم الغيب (ما وراء المادة) يحرر
الفكر الإنساني من القيد الذي يكبله عن إدراك الحقيقة . (المسيحية وخطيئة الإنسان
, وتجسيد المسيح) , وكذلك التوحيد يحرر
الفكر من الرؤية التشاؤمية .
ج – وحدة المعرفة :
من مقتضيات الإيمان أن يرى الكون وما يجري فيه من
أحداث من تدبير الله . فهو وحده المسَبَب المطلق المفرد لكل ما يجري من أحداث ,
السبب لكل ما هو كائن . فوحدة المعرفة تعطي رؤية كلية , وتبتعد عن الرؤية
التجزيئية .
-
الإيمان بوحدة
المعرفة كفيل بتجاوز حالة الفوضى الفكرية السائدة في الفكر الفلسفي والعلمي وحتى
الديني .
-
وحدة المعرفة
تجعل حركة الإنسان منسجمة متوافقة متواصلة مع عالم الغيب .
(3) عالم الشهادة :
ينطلق
هذا المحور من عدة أبعاد :
-
أن الله مدبر
الكون بما فيه " يدبر الأمر من السماء إلى الأرض " , ويحيط علما بخفاياه
وأسراره .
-
الإنسان يستطيع
إدراك السنن والقوانين التي تحرك هذا العالم .
-
العالم شبكة من
العلاقات السببية المترابطة المعتمدة على بعضها , والتي تكرر نفسها ويمكن اكتشافها
وهو ما يسمى بالعلم .
-
إن العلوم لا
تحتاج فصل الله عن الطبيعة .
-
المعرفة شرط الخلافة
, والعلاقة طردية .
-
وضع العقل
الإسلامي وإمكاناته المادية والمعنوية تختلف عن العقل اليوناني .
يطلق المعرفي أحيانا على الإبستمولوجي (Epistmologique)
, إذ تطلق هذه الكلمة في النسق الغربي على " دراسة مناهج المعرفة التي تطبق
في العلوم " كما تطلق على نظرية العلوم.
وتتعلق كذلك بمشكلات المعرفة في الفلسفة وفي العلم , وعلى أشكال التفكير
الرياضي , غير أن مفهومها تحدد أكثر غاستون باشلار (1884/1962) , عندما أشار إلى
أسس الفكر العقلاني للقيزياء المعاصرة في علاقته بالتجربة .
فالإبستمولوجيا , إذا تميز بين شكلين للمعرفة :
الأول
: هو المعرفة الحسية , وتقوم على المنهج الواقعي (Realiste) .
الثاني
:
هو المعارف العقلية (Rationalistes) والمثالية (Idealistes)
.
ومن
ثم , فهي دراسة نقدية لمبادئ العلوم المختلفة , فروضها , ونتائجها , وتحديد أصلها
المنطقي , وقيمتها الموضوعية .
ومن جملة القضايا التي تثيرها
الإبستمولوجيا قضية الجوهر وفكرة الكل , فالجوهر هو الدعامة الأساسية والثابتة لكل
الظواهر , وهو الناحية الأولية والكلية في الشيء , وتعتمد الظواهر على على الجوهر
لوجودها , ولا يعتمد هو على أي شيء لوجوده . ومن ثم فإن الجوهر هو الحقيقي وما
عداه فهو وهم . فهل كان من الضروري البحث عن فكرة الجوهر هذه المختفية خلف الظواهر
؟ أما كانت الأشياء – كما تبدو لنا – كافية في فهم حقيقة الوجود حتى نبحث عن شيء
هو الجوهر .
وفي ضوء ما سبق يتضح ما يلي :
-
فجوهر حضارة المسلمين هو التوحيد , فهو المرشد والموجه والناظم والضابط لكل حركات
الفعل الإنساني . فلا يمكننا فهم الأشياء والأفكار من دون الرجوع للجوهر .
-
فالإيمان بفكرة الجوهر يعني الإيمان بأن ثمة ثباتا في الواقع , وأن هناك كليات
ثابتة وراء الجزئيات المتغيرة . ويختلف هذا التصور عن تصور العدميين والسفسطائيين
ودعاة ما بعد الحداثة الذين لا يؤمنون بوجود جوهر , لأن كل شيء عندهم متغير وعرض .
-
فالنموذج المعرفي التوحيدي يقوم على الإيمان بفكرة اليقين الموحى به من الله , في
مقابل الشكية التي يتسم بها النموذج المعرفي الغربي .
-
التصور الغربي قائم على مبدأ النفعية كأساس أو معيار للحقيقة , ويفتقر في حقيقته
إلى الإجابة عن الأسئلة الكلية والنهائية .
ومن ثم , فالنموذج المعرفي الغربي قسم
المعرفة كما يلي :
أ
– المعرفة الطبيعية . (Natural Sciences)
ب
– المعرفة الإنسانية . (Humanities)
ج
– المعرفة الطبيعية . (Social
Studies)
هذا التقسيم بدوره
ينافي حقيقة التصور الإسلامي الذي يضع أعلى مراتب المعرفة الإيمان بالله ووحدانيته
, ثم معرفة بأحكام شريعته ومضمون عقيدته , وبعدها معرفة الإنسان للكون الذي يعيش
فيه وإضافة إلى معرفته بنفسه وبالحياة , بحيث تتكون بنية النظام المعرفي من الوحي
والكون الذي يشمل الطبيعة والإنسان , ومجالاته هي عالم الغيب وعالم الشهادة . ليجمع
في الأخير جدلية الغيب وجدلية الإنسان وجدلية الطبيعة , أما النظام المعرفي الغربي
فيشمل جدلية الإنسان وجدلية الطبيعة فحسب , في محاولته الإجابة على الأسئلة الكبرى
والنهائية الآتية :
ما
علاقة الإنسان بالطبيعة (المادة) وأيهما يسبق الآخر ؟
ما
الهدف من الوجود ؟
المشكلة المعيارية من أين يستمد الإنسان
معايره ؟ من عقله المادي , أم من اسلافه , ام من جسده , أم من الطبيعة (المادة),
أم من قوى أخرى متجاوزة المادة ؟
ومن
ثم فالمعرفة في النموذج الإسلامي مشروع مفتوح , وجهد متواصل , وسعي مستمر من أجل
الكشف عن الحقيقة المصفاة من الدجل والتدليس والتلبيس .
ويمكن تلخيص هذه
الإبستمولوجيا البديلة المقترحة في المحاور التالية :
أ
– التوحيد بوصفه نظرة تفسر العالم : فهو نظرة للواقع والحقيقة والعالم والزمان
والمكان والتاريخ البشري , وهو بذلك يشمل المبادئ الآتية :
ب
– التوحيد بوصفه جوهر الحضارة :
فهو
بذلك له بعدان المنهج والمحتوى , يشكل البعد الأول تطبيق وتوظيف المبادئ
الأولى في الحضارة , كما يحدد الجانب الثاني المبادئ الأولى نفسها .
(2) المحتوى :
التوحيد بوصفه مبدأ في الفلسفة الماوراء
طبيعية . يعني أن التوحيد ضرورة , لإلغاء أية قوة فاعلة في الطبيعة إلى جانب قدرة الله , الذي
تكون مبادرته الأزلية هي القوانين الثابتة في الطبيعة , الله هو السبب الأول
للموجودات . وهو ما وصل له العلماء
الغربيين أخيرا , بعد أن نبذوا الميتافيزيقا لفترة طويلة . فقد نبذ الغرب فكرة
الله من الكون , ومن العلم أيضا , عادوا من جديد إلى القول إن نظام الكون وتناسق
عناصره ودقة إحداث ظواهره , لايمكن أن تصدر إلا عن إله مطلق . فالحقيقة في التصور الإسلامي لاتفصل الطبيعي عما
وراء الطبيعة , ولا تفصل النظرية عن التطبيق , والنظر عن العمل والعقل عن السلوك ,
والدين عن الدنيا , والدنيا عن الآخرة , والإنسان عن الله وعن الكون , والمجرد عن
المشخص والنسبي عن المطلق ِ, والكل عن الجزء , والعام عن الخاص , والمركز عم
الأطراف والبؤرة عن الهامش , فهذه كلها سمات للحقيقة وفق الإبستمولوجيا البديلة
التي يطرحها الفاروقي .
ثالثا
: الأساس القيمي :
لما انطلقت النظرية المعرفية الغربية من
جدلية الإنسان الطبيعة دون الوحي , اتخذ العلم بفعل منهجه ومفاهيمه وسيلة لتعزيز
عالم ظلت فيه السيطرة على الطبيعة مرتبطة بالسيطرة على الإنسان , فالطبيعة الخاضعة
للعقلانية العلمية , تبدو متمثلة في جهاز الإنتاج والتدمير التقني , الذي يضمن
للافراد حياتهم ويسهلها , والذي يخضعهم في الوقت نفسه لأصحاب الجهاز . ومن خلال
هذا المنظور افتقر العلم إلى جملة من القيم والضوابط , مما تسبب في اغتراب الإنسان
في النهاية (هربرت ماركيوز 1889/1979) , فأصبح العلم مرجعية ذاته .
فالنظرية
المعرفية تتكون من شقين :
الأول
: يتعلق بإنتاج العلم .
الثاني
: يتعلق بتوظيف العلم المنتج لتسيير حياتنا العملية , وما يترتب على ذلك من تفاعل
بين الوحي والواقع الاجتماعي , ما يؤدي إلى نمو العلم الإسلامي التجريبي في
المجالين الطبيعي والاجتماعي .ةولكن عملية التوظيف تقتضي وجود المقاصد الحياتية ,
والمقاصد تقتضي وجود الدوافع النفسية الحافزة للعلم , والمقاصد والدوافع تقتضي
وجود مرجعية قيمية وأخلاقية حاكمة .
فالعلم
الأخلاقي من خلال النظام المعرفي الإسلامي يخلق الإنسان الذي يحقق إرادة الله
يقتضي وجود الامة , بمعني أنه يستحيل وجود الأمة الإسلامية دون وجود البشرية
والحياة , فلأجلها أنزل , فاستمرارها رهن قيمها وأخلاقها .
علم
الجمال : وصف القرآن الله بصفات الجمال والجلال والكمال " ولله الأسماء
الحسنى "
"
وليس كمثله شيء ".
فالفن
في النسق الإسلامي يرتبط باللامتناهي , حيث يتوجه ذهن المتلقي نحو الله , ويغدو
الفن دعما للعقيدة الدينية وتذكيرا بها . بينما الفن في النسق الغربي تجسيد
للطبيعة وتقديس لها , وتطور الامر ليتخذ الفن شكل محاكاة الإله , فهو يصنع الألهة
على شكل البشر ويضفي عليهم صفات بشرية .
الفرق
بين مصطلحي (Aesthetic/Beauty)
, الأول الجمال المادي , والثاني الجمال .
فالجمال
والفن باعتبارهما قيمتين ينضويان تحت منظومة القيم الإسلامية التي لا تخصان مجالا
معينا , بل هي جزء لا يتجزأ من نسق كامل , هو النسق المعرفي الإسلامي . بمعنى أن
الجمال ليس غاية لذاتها وإنما هو أحد الأهداف التي ترد للغاية الكبرى من الخلق
والمتمثلة في ربط الخلق بالخالق , برابطة التوحيد , وما يقتضيه من تذكير بنعم الله
على خلقه ظاهرة وباطنة .